"ابنتي قُتلت، ابنتي لم تنتحر، لم تقتل نفسها، هي مؤمنة ولا يمكن أن تقدم على هذا الفعل الشنيع، لقد قتلوها ونجوا بفعلتهم". بهذه الكلمات التي يعتصرها الألم، تلخص الحاجة نورية قناعتها حول وفاة ابنتها مريم التي انتحرت وتركت غصة وحسرة لم تزدهما الأيام والسنوات إلا ترسخًا في نفس العجوز الثمانينية. الحاجة نورية لا زالت تتهم ساحراً لا تعرفه بتسليط جن على ابنتها، بإيعاز من حسودة لم تتأكد منها، وإن كانت تضع بعضاً من قريباتها على لائحة الاتهام.
الانتحار: تعريف وتاريخ
الانتحار هو فعل قتل النفس، حيث يتسبب الإنسان عمدًا في إنهاء حياته. أما محاولة الانتحار أو السلوك الانتحاري غير المؤدي إلى الموت، فهو يمثل إيذاء النفس مع الرغبة في إنهاء الحياة دون أن يؤدي ذلك إلى الموت. تأثرت وجهات النظر حول الانتحار قديمًا وحديثًا بالمعتقدات الدينية والموروثات الاجتماعية. فالديانات السماوية تعتبر الانتحار معصية لله، بينما كانت مجتمعات أخرى في الماضي تنظر إلى الانتحار كوسيلة محترمة للتعويض عن الفشل، كما في "الهاراكيري" التي مارسها مقاتلو الساموراي في اليابان القديمة بقتل أنفسهم عند فشلهم في خدمة سادتهم. كما التحق بها الطيارون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية الذين قتلوا أنفسهم من خلال استهداف العدو مباشرة بطائراتهم تكفيرًا عن فشلهم في القضاء عليه. في الهند أيضًا، توجد ممارسة جنائزية -لازالت تمارس حتى الآن رغم تجريم القانون لها- وتتمثل في قيام الأرملة بالتضحية بنفسها في المحرقة الجنائزية لزوجها، سواءً برغبة أو تحت ضغط من الأسرة والمجتمع. كما تمجد الكثير من المجتمعات حتى يومنا هذا فعل الانتحار بالتضحية بالنفس كوسيلة للاحتجاج أو هجمة فدائية أو تفجير انتحاري.
الانتحار في السياق الليبي
في بلادنا، حيث تمثل الديانة الإسلامية حوالي 100% من التركيبة السكانية، يقدم الكثير من أبنائنا وبناتنا على الانتحار، رغم أن فعل قتل النفس محرم في الديانة الإسلامية. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا"، وفي الحديث النبوي: "ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم". فلماذا يتجاوز هؤلاء النصوص الشرعية والمحاذير المجتمعية ويقررون إنهاء حياتهم؟
الأسباب النفسية والاجتماعية للانتحار
تقول الأخصائية النفسية شهد عون: "إن أسباب الانتحار كثيرة ومتنوعة، أهمها الاكتئاب والأمراض النفسية، وأيضًا الأزمات الشخصية مثل فقد شخص عزيز، والعزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة، وهناك سبب مهم أيضًا هو التعرض للعنف الأسري والإساءة، إضافة إلى المشاكل الاقتصادية". في ليبيا، تحصر وجهة النظر المجتمعية لظاهرة الانتحار الأسباب في السحر والشعوذة، وتتجاهل معظم الأسباب الأخرى رغم وضوحها الشديد في كثير من الحالات.
مريم، التي تحدثنا عنها، كانت امرأة متزوجة بالكاد تجاوزت الثلاثين من عمرها. استيقظت مبكرة ذات صباح وأعدت طعام الفطور لزوجها قبل أن تودعه وهو في طريقه إلى عمله. وبعد خروجه من البيت، مشت بكل هدوء إلى مخزن صغير في طرف فناء المنزل، أخرجت عبوة مليئة بالنزين أعدها زوجها لمولد الكهرباء، سكبت البنزين على جسدها الهزيل وأشعلت النار في جسمها بنية إنهاء حياتها.
مريم كانت فتاة مرحة، بشوشة، متفوقة في دراستها، وناجحة في وظيفتها، تقطن في بيت عائلتها في أحد أكثر أحياء طرابلس ازدحامًا. لم يمنعها تأخر الزواج -في ليبيا يعتقد البعض أن مرحلة تأخر الزواج تبدأ من سن الرابعة والعشرين- من أن تتمتع بحياتها في حدود ما تسمح به بيئتها. بعد سنوات من الصبر، جاءها نصيبها، شاب من أقارب والدها، يملك بيتًا في قرية منعزلة تبعد عن طرابلس أكثر من مائتي كيلومتر. لم تتقبل الفكرة في بادئ الأمر، ثم رضخت للضغوط العائلية وقبلت على مضض. بعد زواجها بقليل، انقلبت حياتها رأسًا على عقب، وأصبحت تصاب بنوبات فزع واكتئاب حاد، وترفض التعامل مع زوجها وعائلتها، ترفض الكلام وتقوم بتصرفات غير طبيعية.
السحر والشعوذة كتبرير للانتحار
لجأت العائلة إلى ما يعرف بـ"الطب العربي"، أخذوها لشيوخ دجالين معروفين بممارسة الشعوذة، ولشيوخ متدينين يقرأون القرآن فقط، وآخرين يخلطون ما بين الأمرين. وكلهم اتفقوا على أنها ضحية لسحر أسود مكّن جنيًا من جسدها ليحرمها من السعادة. ترسخت هذه الفكرة أكثر بعد أن أقدمت على الانتحار. فبعيدًا عن الوصمة الاجتماعية التي لا تريد عائلة المنتحر التعامل معها، هناك شعور دفين بالذنب والتقصير، سيفيد تقبل فكرة السحر في التعامل معه، فالأمر أكبر من إمكانية العائلة، فالقاتل جني بقدرات خارقة لم نكن نملك إمكانية إيقافها.
التحقيق والتشخيص العلمي
عند الحديث عن موضوع شائك وحساس كموضوع الانتحار وأسبابه الحقيقية وطريقة تعامل المجتمع معه بنسبته للسحر والشعوذة، سيصعب التحصل على من يدلي بشهادته باسمه وصفته، لهذا سنلجأ إلى استخدام الاسم الأول في معظم الحالات، والاسم بالكامل مع الصفة لمن سيقبل بالظهور معنا في هذا التحقيق.
عندما عرضنا حالة مريم على الدكتور عبد الباسط، أخصائي أمراض النفس والسلوك، أكد أن ما تعرضت له الضحية هو حالة حادة من الاكتئاب والقلق بسبب ما يعرف في علم النفس بـ"الصدمة الحضارية" (Culture Shock)، وهي حالة نفسية يشعر بها الأفراد عندما ينتقلون إلى بيئة ثقافية جديدة ومختلفة تمامًا عن بيئتهم الأصلية، ويشعرون بعدم الارتياح أو العزلة.
"كان بالإمكان تفادي المأساة التي حصلت لهذه المسكينة لو أنها عرضت على مستشار نفسي أو معالج، وتحصلت على دعم نفسي يسمح لها بتجاوز أزمتها بدلًا من التنقل بها بين الشيوخ والدجالين"، يقول الدكتور عبد الباسط وهو يستحضر كما كبيرًا من الحالات التي عرضت عليه لأشخاص انتحروا أو حاولوا الانتحار هربًا من ظروف نفسية أو عاطفية أو اقتصادية، وحاولت عائلاتهم جاهدة أن تتهم الجن والشياطين فيما حصل لأبنائهم أو بناتهم.
آراء إضافية ودراسات
الأخصائية النفسية شهد عون قالت إنها تتفق بنسبة 80% حسب تعبيرها مع تشخيص الدكتور عبد الباسط، فالصدمة الحضارية حسب وصفها قد تتسبب في هذه الأعراض، ولو تلقت الضحية دعمًا نفسيًا لأفادها ولقلل من ميولها الانتحارية.
يقول خالد وهو أحد عناصر الشرطة الذي تعامل مع بعض حالات الانتحار: "إن هناك تشابهًا في حالات الانتحار التي تعاملت معها، يدل حتماً على وجود وعي وفهم تامين لما يريد المنتحر الإقدام على فعله، حيث حرص جل المنتحرين على إنهاء حياتهم باختيار طريقة تضمن لهم تحقق النتيجة، أي أن كلا منهم كان يتصرف بوعي تام ولم يلجأ إلى طريقة عشوائية قد يتعرض معها لإصابة وينجو من الموت".
يشير خالد بحديثه إلى فكرة الاختيار والتخطيط ودقة التنفيذ (سبق الإصرار والترصد) التي تتعارض مع مفهوم الإجبار الذي يلجأ إليه من يعتبر أن كل حالات الانتحار أو معظمها هي نتيجة لأعمال السحر والشعوذة.
التزايد المطرد لحالات الانتحار في ليبيا
التزايد المطرد لحالات الانتحار في مدن ليبية عدة أشهر من أن يخفى، وأخبارها تنتشر بشكل شبه يومي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ومع هذا لا توجد دراسات وأبحاث تعطي لهذا الموضوع حقه. ورغم أن وزيرة الشؤون الاجتماعية في حكومة الوحدة الوطنية وفاء الكيلاني قد كلفت منذ نحو عامين مركز الدراسات الاجتماعية وفريق الدعم النفسي بالوزارة بالعمل على دراسة تنامي ظاهرة الانتحار في ليبيا والوقوف على أسبابه وسبل الحد منه، إلا أن المركز لم ينشر بعد –على حد علمنا- أي تقرير بالخصوص.
في آخر إحصاء صدر عن منظمة الصحة العالمية بخصوص ظاهرة الانتحار في العالم، قدرت المنظمة أعداد المنتحرين في ليبيا في عام 2019 بـ 347 حالة، أي بمعدل 4.5 حالة انتحار لكل مائة ألف مواطن، وهو ما وضع ليبيا في المركز الثاني بعد موريتانيا في نسبة الانتحار في دول المغرب العربي، بعد أن كانت تحتل مرتبة متأخرة في سنوات سابقة.
في يوليو سنة 2024، نشرت وزارة الداخلية في الحكومة المكلفة من مجلس النواب إحصائية بحالات الانتحار المسجلة من 1 يناير إلى 6 يونيو من نفس السنة في مدن المنطقة الشرقية فقط. تصدرت مدينة بنغازي القائمة بعدد 17 حالة انتحار وبنسبة 44% من الحالات المسجلة، تليها مدينة البيضاء بأربعة حالات، ثم طبرق بثلاثة.
ندوات ودراسات حول الانتحار
في يوليو من العام 2024 أيضًا، أقامت وزارة الداخلية ندوة علمية بعنوان "الانتحار / دراسة – تشخيص – علاج"، لم تنشر الوزارة رسميًا – حتى الآن – أية أبحاث علمية موضوعية صادرة عن الندوة؛ والنتائج التي نشرها مكتب إعلام الوزارة لا تزيد عن تأكيد المؤكد، سواء علميًا ونفسيًا، أو شعبيًا ومجتمعيًا.
ومع قلة الدراسات أو ربما انعدامها، تبقى الدراسة التي نشرتها "وحدة البحوث الاجتماعية" بمديرية أمن طرابلس عام 2020 من أهم المرجعيات الرسمية في مجال ظاهرة الانتحار. ربطت الدراسة بين الانتحار وعدة عوامل متشابكة قد تكون نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وأظهرت الدراسة أن معظم ضحايا الانتحار الذين شملتهم الدراسة هم من فئة الذكور بنسبة 58.8%، ومنهم 41.1% تتراوح أعمارهم بين 21 و30 سنة. وتمثل نسبة العزاب من بين المنتحرين 73.52%، كما بلغت نسبة من كان مستواهم التعليمي متوسطًا فأقل 52.94%، والعاطلين 61.76%، ومن يقطنون الأحياء الشعبية الفقيرة 70.58%. كما بينت الدراسة أن كل الذين شملتهم استخدموا طريقة الشنق في تنفيذ الانتحار.
تابعت الدراسة أن نسبة الضحايا الذين لديهم ملفات متابعة بمستشفيات الأمراض النفسية والعصبية 32.35%. ومن أكثر الأسباب الدافعة إلى الانتحار حسب الدراسة هي الاضطرابات النفسية والاكتئاب بنسبة 35.25%، والعزلة والاستسلام لليأس 26.47%، بينما تسببت الضغوط النفسية والاجتماعية بانتحار 17.64%. تعاطي الكحول والمخدرات أسهم في انتحار 11.76%، بينما تسببت البطالة والفراغ بإقدام 8.82% من هذه الحالات على إنهاء حياتهم.
أوصت الدراسة بإنشاء مراكز علاجية وتأهيلية للأفراد الذين حاولوا الانتحار أو لديهم ميول للعزلة والانتحار، ومعالجة مشكلة البطالة من خلال فتح مشاريع اقتصادية لمكافحة الفقر الذي يعد عاملاً رئيسيًا في ازدياد حالات الانتحار بين فئة الشباب، حسب الدراسة. كما أوصت بتفعيل ودعم الطب النفسي من خلال إنشاء مراكز تخصصية للعلاج النفسي ونشر ثقافة العلاج النفسي للذين يعانون من الاكتئاب والاضطرابات النفسية.
التفسيرات غير العلمية للانتحار
ورغم رصانة الدراسة وتوخيها لأساليب علمية في اعتماد نتائجها، إلا أن التعامل مع ظاهرة الانتحار بأسلوب علمي وموضوعي لم يكن دائمًا من صفات أجهزة الدولة الرسمية. ففي العام 2017 عندما هزت مدينة البيضاء في شرق ليبيا ظاهرة غريبة ولغز غير مفهوم تمثل في إقدام عشرة أشخاص من نفس المدينة (من الجنسين) على محاولة الانتحار –نجا منهم أربعة- في فترات زمنية قريبة جداً، وقتها اختلفت التفسيرات حول هذه الظاهرة الغريبة بين من يربطها بالظروف الاجتماعية والاقتصادية ومن ينسبها إلى أعمال السحر والشعوذة. لكن أكثر الروايات ربطتها بلعبة انتشرت على مستوى العالم حينها تسمى "تشارلي"، واتهمت بالتسبب في انتحار كثيرين في دول أخرى غير ليبيا.
في ذلك الوقت، تبنت وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة (حكومة عبد الله الثني) هذا الطرح، بل إنها أرسلت تعميماً رسمياً إلى جهات تابعة لها قالت فيه إن "هناك لعبة تسمي تشارلي (Charli) انتشرت خلال الأيام الماضية وتداولها الشباب كثيراً، وأصلها شيطان مكسيكي كما تروي أساطيرهم، إذ يتم استحضار روحه بحسب مزاعمهم عبر بعض الكلمات الإنجليزية".
وبحسب تعميم الوزارة، فبعد إجراء الدراسات وتقصي الأمر، اتضح أن "تلك اللعبة تحدث لدى الشباب في سن المراهقة أعراضًا غريبة وكوابيس وأمراضًا نفسية تودي بهم إلى الانتحار". واعتبرت الوزارة في تعميمها أن "الشيطان المكسيكي ’تشارلي‘ خطر على الأمن القومي الليبي وتجب مواجهته".
تأثير الجهل بالصحة النفسية
تقول الأخصائية النفسية شهد عون إنه عند حدوث عدة حالات انتحار في نطاق جغرافي ضيق وفي أزمنة متقاربة، فإنه لا يمكن أن يكون السبب واحدًا لاختلاف الشخصيات والأسباب والأعمار. لافتة إلى أن لعبة تشارلي قد تكون تسببت فعلاً في انتحار عدد من الحالات، معتبرة أن فكرة الإيحاء – وهي استلهام فكرة من حدث مشابه – قد تكون مؤثرة في بعض هذه الحالات.
تواصل السيدة عون: "إن نسب حالات الانتحار إلى السحر والشعوذة هو بسبب عدم الوعي الكافي عن الصحة النفسية، والأمراض النفسية التي قد تسبب الاكتئاب. كما أن بعض الناس تنسب حالات الانتحار إلى السحر والشعوذة خوفاً من كلام الناس ومن القيل والقال".
دراسات وتحليلات طبية
في 11 أكتوبر 2019، وخلال احتفالية أقامها مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، قدم استشاري الطب النفسي بمستشفى الرازي "د. محمود شميلة" ورقة علمية، بيّن من خلالها أن محاولات الانتحار تزداد وتيرتها في النساء أكثر من الرجال، وتغلب عليها الأسباب الاجتماعية والمرضية. أغلبها غير عنيف ويحدث بتناول السموم، أو الشنق في مكان قريب، أو الغرق. في حين تزداد وتيرة الانتحار الناجح في الرجال عن النساء، وتغلب عليه الأسباب الأمنية والمادية والمرضية، ويغلب عليها الأسلوب العنيف كإطلاق النار، والقفز من علو، وحوادث المرور المتعمدة، والشنق.
وأشار استشاري الطب النفسي إلى وجود 3 أنواع من الانتحار هي "الاندفاعي” ويسمى النزق أو غير العمد“ ويحدث في 10% من مرضى الفصام والاكتئاب، والانتحار العمد، والانتحار المزمن أو البطيء، وهو ما يحدث في بعض مرضى الأمراض المزمنة كأمراض السكري والقلب وارتفاع ضغط الدم والروماتيزم والفشل الكلوي والأورام والغدد الصماء والأمراض النفسية والعصبية، وذلك بتعمد المريض وعائلته الإهمال في المتابعة الطبية وانتظام العلاج.
حالات جنائية أم حالات انتحار؟
تتحدث الأخصائية النفسية شهد عون عن حالة مصابة بصدمة نفسية نظراً لتعرضها للتحرش المتكرر من أحد أقاربها، وأن صدمتها أدت بها إلى الاكتئاب والعزلة نظراً لخوفها من تهديد المتحرش بإيذائها في حال أبلغت عنه والديها، ولهواجس استمرار التحرش وعدم قدرتها على الاستمرار في حياتها بهذا الثقل و"العار" الذي تحمله، وأنها تهدد بقتل نفسها أو قتل المتحرش "فالحياة أصبحت لا تطاق بوجوده".
في هذا السياق، هي لا تستبعد وجود حالات جنائية لجرائم قتل قيدت على أنها حالات انتحار، حيث تعتبر أن ضحايا مثل هذه الحالات معظمهم من النساء، وأنهن قتلن لأسباب تتعلق بالشرف أو لتعرضهن للعنف المنزلي أو الاغتصاب، وأنهم اعتبروا منتحرات؛ رغم أنهم في الحقيقة ضحايا لجرائم قتل.
التحديات القانونية في قضايا الانتحار
يقول هيثم، وهو محام متخصص في القضايا الجنائية: "حالات الانتحار تعتبر مثل (الصندوق الأسود) بالنسبة لنا، حيث نتعامل نحن وكل المتداخلين في التحقيق حول ملابسات هذه الجرائم بعد أن ينجح المُنتحر في تحقيق هدفه، الأمر الذي لا نصل معه للأسباب الحقيقية التي جعلته يُقدم على هذا الأمر". ويضيف: "أما الناجون من محاولات انتحار فغالبًا يُفرض عليهم من قبل عائلاتهم عدم التحدث في الأمر، بل أحيانًا لا يصل الموضوع إلى الجهات الضبطية، بالتالي لا نستطيع أن نشخص هذه الحالات بشكل دقيق حتى نقف على الأسباب التي أدت بهم لمحاولة الانتحار".
الاتجاهات المجتمعية والتفسيرات الماورائية
ومع الأمثلة الكثيرة والدراسات العلمية التي تؤكد أن حالات الانتحار وراءها دائمًا أسباب نفسية وسلوكية ومجتمعية واقتصادية وأسرية، يأبى المجتمع ومن ورائه السلطة الحاكمة إلا السير في خط تتبع الماورائيات، واتهام السحرة والمشعوذين بتسخير جنودهم من الجان على أجساد الناس ودفعهم إلى الانتحار. تمثل هذه الفكرة التيار المسيطر على الخط الدعوي متمثلًا في الجهات الرسمية كالهيئة العامة للأوقاف، رغم أنه ومن ناحية علمية وشرعية لم تشهد هذه الفكرة إجماعًا من علماء المسلمين قديمًا وحديثًا، وأن الكثير من علماء المسلمين رفضوا فكرة إمكانية سيطرة الجن على جسم الإنسان وعقله، وأكدوا أن سلطة الشيطان على الإنسان لا تتجاوز الوسوسة كما ورد في القرآن الكريم.
يبقى موضوع الانتحار في ليبيا معقدًا وشائكًا، يتداخل فيه ما هو نفسي واجتماعي مع ما هو ديني وثقافي، ويعكس العديد من التحديات التي تواجه المجتمع الليبي في فهم ومعالجة الظاهرة. إن الحاجة إلى فهم أعمق وأكثر علمية للانتحار وأسبابه، بما في ذلك العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، تعتبر ضرورية لتطوير استراتيجيات فعالة للوقاية والدعم. كما أن نشر الوعي حول الصحة النفسية والتعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية بشكل أكثر فعالية يمكن أن يسهم في الحد من هذه الظاهرة المؤلمة.