استطلاع بعثة الأمم المتحدة: هل تبحث البعثة عن حل للأزمة الليبية أم عن مخرج لها؟
أصدرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بيانا منذ أيام قليلة، قالت فيه إنها أنهت عملية استطلاع رأي واسعة استمرت لعدة أشهر، تحدثت فيه إلى آلاف الليبيين والليبيات من مختلف المناطق، وقالت إنهم طالبوا بـ"الانتخابات" ورفضوا "التمديد" للحكومات والمجالس؛ وهي نتائج متوقعة لم تفاجئ أحدا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا كل هذا الجهد والوقت والمال لمعرفة ما نعرفه جميعا؟ أي ليبي يعيش فوق أرض هذا البلد ويعاني من ويلات الانقسام والفساد وغياب الخدمات؛ يعرف أن الناس تريد انتخاب من يحكمهم، وأن عامة الشعب تريد إنهاء حالة اللا دولة، وتريد إنهاء احتكار السلطة والثروة.
البيان جاء في توقيت بالغ الحساسية، قبل أيام فقط من إحاطة رئيسة البعثة، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن، وكأن البعثة أنفقت كل هذا الجهد والوقت لتحضر ورقة بيضاء، تظهر فيها أنها استمعت إلى صوت الشارع، قبل أن تقدم تقريرها الذي لن يقول شيئا جديدا في الغالب.
إحاطة مجلس الأمن التي ستقدمها تيتيه الأسبوع المقبل ستحاول إظهاراها على أنها مرهونة بهذا الاستطلاع، وستكون السردية الجاهزة هي أن الشعب الليبي يريد الانتخابات، والمعرقلون يماطلون، وستكرر كلمات مثل "الحل السياسي" و"الإرادة السياسية" و"نبذ الانقسام" و"الإنفاق الرشيد" و"مكافحة الفساد" وغيرها من عبارات رنانة، وستحذر الإحاطة كذلك من المخاطر الناجمة عن استمرار الوضع الحالي، وقد تسمي بعض الأسماء، لكنها لن تفرض عقوبات على مماطل، ولن تقدم حلا جذريا لمعضلة رفض الخاسرين التسليم بنتائج أي اقتراع.
والنموذج لرفض الخاسرين شاهدناه عيانا منذ أيام بحرمان المواطنين في عشرات البلديات من حقهم في انتخاب من يدير شؤونهم، فكيف يمكن أن تصدق أن من منع انتخاب مجلس بلدي بسلطات محدودة، سيسمح بانتخاب رئيس قد يزج به في السجن!
ما ينتظرنا هو إحاطة أخرى تندد وتطالب وتحذر، ثم ينفض الاجتماع، ويعود الجميع إلى ما كانوا عليه، مجلس الأمن منقسم، والفاعلون الليبيون يعرفون هذا جيدا، ويعرفون كيف يلعبون على هذا الانقسام، روسيا ستدعم طرفا، وتركيا ستدعم آخر، وستتصارع العبارات الدبلوماسية في قاعة المجلس، بينما يستمر الصراع على الأرض.
هل هناك حل يلوح في الأفق؟ الحقيقة المرة هي أن الحل لم يعد هو الهدف الأساسي لأطراف كثيرة، داخلية وخارجية، لقد تحولت الأزمة الليبية إلى صناعة تحقق مكاسب للجميع، إلا للشعب الليبي، فالمليشيات تتربح من تجارة السلاح والتهريب، والسياسيون يتشبثون بكراس مهترئة لا تتجاوز السلطة الناتجة عنها عادة مدى أبصارهم، والدول المتدخلة تبيع السلاح وتنشر قواتها وتوسع نفوذها وترى أن الاستقرار الحقيقي قد يهدد هذا النفوذ.
المأساة أن الحل موجود ومعروف للجميع، طريقته بسيطة لا تحتاج إلى الكثير من الحوارات والاستطلاعات والإحاطات، تحتاج فقط إلى اتفاق على قانون انتخابات عادل، توافق على ضمانات تحفظ للجميع شيئا من مكاسبهم، وجود دولي رادع يمنع العابثين من العبث بنتائجها، ولكن الإرادة مفقودة لأن الخاسرين من الحل أكثر عددا وأقوى نفوذا من الرابح المحتمل.
بعثة الأمم المتحدة، بشخصياتها المكلفة، وجولاتها الميدانية، واستطلاعاتها الواسعة، وإحاطاتها الدورية تبدو أحيانا كطبيب يكرر تشخيص المرض منذ عشر سنوات، ويعيد كتابة نفس الوصفة الطبية، بينما المريض يحتضر في غرفة الانتظار، والسؤال ليس عن التشخيص، بل عن العلاج الجذري الذي لم تجرؤ البعثة أو من يوجهها على وصفه.
هل ستغير إحاطة تيتيه من الواقع؟ الأرجح لا، ستبقى بعثة الأمم المتحدة تدور في الحلقة نفسها، تبحث عن مخرج للعبور من الأزمة، لا عن حل لها، المخرج قد يكون اتفاقا هشا كما حدث سابقا في الصخيرات وجينيف، اتفاق يمدد في عمر الأزمة، ويسهل إداراتها لفترة من الزمن، أما الحل فسيبقى غائبا إلى ما شاء الله لأنه يحتاج إلى جرأة لم تظهرها البعثة ولا الدول الضامنة، وسيبقى الليبيون ينتظرون الحل الغائب الذي يعيد إليهم دولتهم، والحل لن يأتي، فكما يقول المثل (ما حك جلدك مثل ظفرك)، إن لم يفرض الليبيون الحل من الداخل فلن يفرضه المتدخلون من الخارج، لأنهم غالبا يتربحون من الأزمة ولن يستفيدوا من الحل.