الأيادي المرتعشة لا تبني!
لا يخفى على أحد حال بلادنا من انهيار شبه تام في كل مرافق الحياة؛ انقطاعات كهرباء متكررة، وأزمة متجذرة لم تقض عليها الحكومات المتعاقبة، والسبب هو الفساد، منظومة صحية منهارة تماما، مستشفيات تفتقر لأبسط المستلزمات، ومرضى السرطان والفشل الكلوي وغيرها من الأمراض المزمنة يعانون غياب الأدوية والرعاية، والسبب الفساد، بنية تعليمية مهترئة، مدارس متهالكة، وسائل تعليمية معدومة، ومدرسون غير مؤهلين، وفساد في طباعة الكتب المدرسية، ناهيك عن الغش في الامتحانات، والسبب دائما هو الفساد.
سيطر الفساد والفاسدون على كل مناحي حياتنا، ولم يتركوا للشعب متنفسا واحدا إلادنسوه، حتى الرياضة، فحتى كرة القدم – الشغف الجماهيري – سلبت بأيد مرتعشة، ففقدت بريقها وتنافسيتها، وتحولت إلى لعبة قذرة بقذارة أخلاق ممسكي زمامها، منفرة كسلوكهم وجبنهم.
الأيادي المرتعشة لا تبني، أياد تهتز من الضعف والوهن والجبن، لا تحمل المسؤولية، فلماذا يتقدم أصحابها؟ ولماذا يصبح حضورهم طاغيا وصوتهم أعلى وفرصهم أوفر؟ لماذا يتقلدون مناصب يعجزون فيها عن اتخاذ القرارات الحاسمة، بينما يتوارى الكفء خوفا أو تخويفا؟
الحديث عن فساد الرياضة – خاصة كرة القدم – في ليبيا ليس جديدا؛ الجديد هو جرأة المسؤولين المرتعشين على إصدار القرارات وتطبيق اللوائح والعقوبات حسب أهوائهم، ثم تعليقها متى هددت مصالحهم.
دافعي لكتابة هذه السطور هو دراما "سداسي التتويج" في ميلانو، وتحديدا أحداث مباراة أهلي طرابلس وأهلي بنغازي، وجدل تقنية الفيديو (VAR)، فبعد أقل من 48 ساعة من نهاية المباراة، أصدر اتحاد الكرة "الشجاع" قرارات حازمة تمثلت في حرمان لاعب ومدرب أهلي بنغازي، وغرامات مالية، وإلحاق الهزيمة بالفريق (2-0).
قرارات سليمة إجرائيا ولا غبار عليها، لكن الصدمة كانت في جرأة الاتحاد ولجنة مسابقاته على تطبيقها هنا، بينما امتنعوا عن تطبيقها في ديربي طرابلس بين الأهلي والاتحاد الذي شهد أحداثا درامية وحتى إجرامية مثل حرق حافلة الفريق، شاهدها الجميع إلا اتحاد كرة القدم ولجنة مسابقاته ومراقب المباراة!
اتحاد الكرة المرتعش ولجنته عجزا عن تطبيق القانون، وأجلا إصدار أي قرار حتى أصبحت نتيجة المباراة بلا معنى، فقررا إلغاءها وإبطال نتيجتها بحجة الحفاظ على "السلم الأهلي والنسيج الاجتماعي"!
فنقول إذا كان الاتحاد حريصا على السلم الأهلي، فلماذا لم يطبق هذه الحجة في مباراة الأهليين؟ لماذا يطبق القانون في إيطاليا ويتجاهله في ليبيا؟
ارتعاش أيدي مسؤولي الكرة ليس حكرا على هذا الاتحاد، فالاتحادات السابقة كانت هي الأخرى رهينة لرؤساء أندية متنفذين، وسعت الدوري الممتاز إلى 36 فريقا في بلاد تعجز مرافقها عن استيعاب دوري بـ 16 فريقا! والأعجب أن دوري الدرجة الأولى بلغ 134 فريقا! لماذا؟ لضمان أصوات هذه الأندية في انتخابات رئاسة الاتحاد، وللمفارقة فإن الانتخابات لم تجر إلى بعد أن أجبر رئيس الاتحاد السابق على الاستقالة، فورطنا في الفساد ثم لم يجن ثماره!
قد يظن القارئ المتعصب لفريقه أننا بهذا المقال نقصد فريقا بعينه (كأهلي طرابلس)، ولكننا في الحقيقة نقصد المرتعشين الجبناء الذين يحكمون الكرة، وجودهم يمنع أي تقدم لكرتنا على المستوى الدولي أو القاري، فهم قد يمنحون فريقك بطولة محلية، لكن على المستوى الدولي سنظل ندور في حلقة مفرغة، فالتقدم يحتاج بناء، والأيادي المرتعشة لا تبني.
لقد شاهدنا خلال السنوات الماضية أمثلة متكررة للفساد على مستوى كرة القدم مع عجز كامل من سلطات اللعبة في التصدي له، شاهدنا شخصيات عسكرية ومدنية تترأس أندية تنفق عليها من أموال الدولة بلا رقابة.
شاهدنا أشخاص يتولون مناصب إدارية ورياضية في عدة أندية في نفس المسابقة، بل وفي نفس المجموعة، ضاربين بذلك عرض الحائط بمبدأ المنافسة الشريفة شاهدنا تطبيق العقوبات واللوائح على الأندية الضعيفة وحماية الأقوياء بحجج واهية.
تذكروا موسما سابقا حين انسحب الاتحاد وأندية أخرى في الأسبوع الأول من الدورياحتجاجا على دعم الدولة لفرق معينة، طبق الاتحاد الليبي لكرة القدم حينها العقوبات بصرامة (فاعتبر الفرق المنسحبة خاسرة وخصم نقاطا)، لكن حين انسحب الاتحاد لاحقا أمام أهلي طرابلس في سداسي التتويج من نفس الدوري محتجا على طاقم التحكيم، وتبعه أهلي بنغازي، اخترع رئيس اتحاد كرة القدم المرتعش حيلة شيطانية لكيلا يطبق اللائحة الصارمة على فريق الاتحاد فقال إن "هذا ليس انسحابا، بل هو امتناع عن اللعب"! فسقطت العقوبةالتي كانت ستنزل الاتحاد إلى دوري الدرجة الأولى، ولو فعلها ناد صغير لأسقط بلا تردد.
والنماذج السابقة تكررت كثيرا وستتكرر ما دام المرتعشون يمسكون بزمان الأمور، ومعهم ستتحول ملاعبنا من ساحات للمنافسة الشريفة إلى مرايا تعكس انهيارنا الشامل، فالأيادي المرتعشة التي تدير الكرة – بجبنها وفسادها وارتهانها – هي ذاتها التي تخنق التعليم والصحة والكهرباء وغيرها، ولا يمكن فصل مأساة الرياضة عن مأساة الوطن، فما قيمة تطبيق اللوائح في ميلانو وتشريع الفوضى في طرابلس وبنغازي؟
لا زلنا متأخرين كثيرا عن دول العالم المتقدمة في مجال كرة القدم، ولنقترب من مستوى جيراننا على الأقل؛ يجب أن نبدأ ببناء كرة القدم الحقيقية على مبدأ المنافسة الشريفة، والقوانين التي تطبق على الجميع، وهذا لن يبدأ إلا بيد لا ترتعد أمام الفاسد، وعزيمة لا تنكسر أمام التهديد، وإرادة لا تعلق على نفوذ المسؤول، أما الأيادي المرتعشة فإنها لن تبني شيئا؛ ببساطة لأنها لا تستطيع البناء.