الردع في زمن الشك: ماذا لو غاب الشيخ؟
كثرت الأقوال حول كيفية موت الإسكندر المقدوني، الذي خلّف إمبراطوريةً كبيرة لا يزال أثرها باقيًا إلى اليوم. ولا توجد رواية واضحة حول الآلية التي اقترحها لخلافته بعد موته، إلا أن أبرز هذه الروايات جاءت على لسان ديودوروس، أحد مؤرخي ذلك العصر، الذي قال إن أصحاب الإسكندر سألوه على فراش الموت: “إلى أي الرجال تترك إمبراطوريتك الواسعة؟” فأجابهم باختصار: “إلى الأقوى”.
يقول لنا التاريخ إن أغلب المشاريع الشمولية القائمة على فردٍ واحد تتعثر، وأحيانًا تنهار، بمجرد غيابه، لكن يرى البعض أن ذلك ليس قاعدةً ثابتة بالضرورة.
في ليبيا، بعد انتفاضة فبراير، ظهرت العديد من التشكيلات المسلحة، بعضها استمر حتى الآن، وبعضها الآخر انتهى أو دُمج مع قوى أقوى منه، سواء باختياره أو تحت الإكراه. ومن بين هذه التشكيلات التي تمكّنت من الصمود والاستمرار عبر كل المراحل وتطورت، ما يُعرف اليوم بـ” جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإهاب”، التي يتزعمها شخصية دائمًا ما كانت محط جدل، وهو الشيخ عبد الرؤوف كارة.
قوة الردع، بما لها وما عليها، بإيجابياتها التي يراها مناصروها وسلبياتها التي يراها معارضوها، إلا أن الجميع يتفق على حجم تأثيرها في مجريات الأحداث الأمنية في طرابلس خاصة، والمنطقة الغربية عمومًا، وليبيا نسبيًا. وإن أي تطور يخص هذه القوة، سواء في بنيانها أو استمراريتها، من شأنه أن يؤثر على كل من يقطن هذه الرقعة الجغرافية.
وبعد مقتل غنيوة الككلي أمر جهاز دعم الاستقرار في معسكر التكبالي جنوب طرابلس على أيادي لواء 444 ، انهار تشكيله المسلح بشكل غير متوقّع في غضون ساعتين فقط، ما فتح تساؤلات كبيرة في الشارع الليبي حول مصير باقي التشكيلات المسلحة في حال غياب قادتها. لم يكن أحد في طرابلس يتوقع هذا الانهيار السريع، خاصة مع الهالة الإعلامية والعسكرية التي أحاطت بالجهاز، ودوره في المعارك السابقة.
أيضًا، هناك تربص واضح بقوة الردع من قبل التشكيلات المسلحة الموجودة في طرابلس اليوم، والتي قادت “ليلة السكاكين الطويلة” وأنهت بها جهاز دعم الاستقرار، ونتحدث هنا عن قوات اللواء ( 111 ) بقيادة عبد السلام الزوبي واللواء ( 444) بقيادة محمود حمزة، وحاولت هذه القوات التقدم باتجاه معيتيقة وفشلت، بعد أن استطاعت قوة الردع إفشال هذا الهجوم، بالتالي، أصبح هناك ضرورة لتخيّل السيناريوهات المحتملة لانهيار القوة في طرابلس؟
من هنا، طرحنا في هذا المقال سؤالًا محوريًا: ماذا لو غاب الشيخ؟
تُوصَف قوة الردع بأنها قوة “شبه نظامية”، كما ورد في إحدى الدوريات التابعة لمعهد أمني أمريكي يتابع الوضع الأمني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتقوم هذه القوة - كما نُرجّح - على مستويين من القيادة:
• الأول هرمي، متمثّل في شخص الشيخ عبد الرؤوف كارة، حيث تصدر عنه كل التعليمات المهمة والمفصلية ذات الطابع الحساس، سواء ما يتعلق باستقرار العاصمة أو أي تحركات عسكرية.
• الثاني أفقي، يتشارك فيه مجموعة من القيادات في الصف الثاني، ويتولون اتخاذ قرارات يومية تتعلق بملاحقة المجرمين، أو تنفيذ عمليات اعتقال وإفراج، إضافة إلى إدارة السجن التابع للقوة، والذي يعتبره البعض نقطة ضعفها، بينما يراه آخرون مصدرًا من مصادر قوتها. فاحتواء السجن على عدد كبير من المجرمين الخطرين وعلى رأسهم أفراد متهمين بكونهم قيادات لتنظيم داعش في ليبيا، منح القوة نوعًا من الحماية غير المعلنة من قبل جميع الحكومات السياسية التي تعاقبت خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.
كما لعبت قوة الردع دورًا بارزًا في كل الحروب التي شهدتها العاصمة طرابلس، ما خلق لها سردية واضحة في أذهان الليبيين، فلطالما كانت طرفًا يصعب تحدّيه. لم تدخل حربًا وخسرتها، وكانت دائمًا ما تدرس خطواتها بدقة، وترفض الانجرار إلى صراعات دون حساب. يظهر ذلك جليًا في رفضها المشاركة المباشرة في “حرب فجر ليبيا”، ودخولها المتأخر – بعد أربعين يومًا – في معركة صدّ هجوم الجنرال حفتر على طرابلس.
أما حين تُقرر القوة إخراج أحد من المعادلة الأمنية في طرابلس، فلا يهم عدد أفراد قوته أو مدى قربه منها. وقد تجلّى ذلك فيما جرى للواء 444 وفرقة النواصي، حيث كان مصير الأول “الكفوف”، ومصير الثاني “الهروب من البحر”.
لسنا هنا بصدد منح صكوك المشروعية أو ننزعها عن أي تشكيل مسلح، بل نحاول أن نفهم ونحلل تبعات غياب بعضها على حياتنا واستقرارنا.
يرى كثيرون أنه لا يوجد من يمكنه ملء الفراغ الذي قد يخلفه غياب “الشيخ” داخل قوة الردع. فهو يُمثّل رمانة الميزان داخل القوة، وضمان توازن الصف الثاني من القيادات. ويعتقد البعض أن غيابه سيمنح كلًّا من هؤلاء القادة شعورًا بأحقيته في الخلافة، ما قد يؤدي إلى انقسامات داخلية تهدد بانهيار القوة من الداخل، دون الحاجة لأي تدخل خارجي.
ولا يمكن تجاهل الحاضنة الاجتماعية لقوة الردع، فجزء كبير من قوتها واستقرارها نابع من تمركزها داخل منطقة سوق الجمعة، ومن كون الشيخ عبد الرؤوف كارة من أبناء هذه المنطقة، وعائلته من العائلات الكبيرة والفاعلة فيها. وبالتالي، فإن قيادة الشيخ تحظى بدعم محلي له طابع مناطقي، بينما قد تفتقر القيادات الأخرى في الصف الثاني لهذه السمات، مما يجعل قبولهم الشعبي موضع شك.
وما حصل مؤخرًا يؤكد ذلك، متمثل في إلتفاف الحاضنة الشعبية حول القوة ما ساهم بشكل كبير في الحفاظ على تماسكها، وبعث برسالة واضحة إلى كل التشكيلات المسلحة الأخرى في طرابلس وخارجها، أن المساس بالقوة سيجرّ حتمًا إلى الدخول في حرب مع منطقة كاملة يقطنها أكثر من 400 ألف إنسان.
لا يمكن لأحد الجزم بهذه السردية، لكن ما نعرفه – وهو قليل – يشير إلى أن شخصية الشيخ تحظى بنوع من القداسة داخل القوة، تعززت بمواقف وسنوات من العمل، ويصعب ملء هذا الفراغ بسهولة. وإذا لم توضع آلية واضحة لانتقال القيادة، فإن القوة قد تعود إلى وصية الإسكندر المقدوني التي بدأنا بها المقال: “الخلافة للأقوى، أو يجرى عليها ماجرى على جهاز دعم الاستقرار، لكن الفاتورة ستكون أكبر بكثير!!