السياسي

معركة ليبيا vs نيجيريا (قيادة طفولية ونتائج كارثية)

معركة ليبيا vs نيجيريا (قيادة طفولية ونتائج كارثية)

معركة ليبيا vs نيجيريا (قيادة طفولية ونتائج كارثية)

 

في السنوات الأخيرة، بات واضحا أن منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة موقع فيسبوك، أصبحت تمتلك تأثيرا كبيرا على صناعة القرار السياسي والاقتصادي وحتى الرياضي في ليبيا، حيث أصبحت بعض السلطات تستجيب لضغوط غير مدروسة من مستخدمي وسائل التواصل، ما يعكس ضعفا في النهج الرسمي واتباعا أعمى للتيارات الجماهيرية العاطفية.

آخر مثال على هذا التوجه هو ما حصل في القضية التي أثارت الجدل مؤخرا، وهي ما حدث لمنتخب نيجيريا في ليبيا، وكيف تحولنا من مظلوم يسعى لاستعادة حقه، إلى ظالم أهوج يحتفل بالإساءة لضيوفه دون النظر إلى العواقب، وكل ذلك استجابة لأطفال ومراهقين – عمرا أو عقلا- ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي. 

بدأت القصة بمعاملة سيئة تلقاها منتخب ليبيا لكرة القدم في نيجيريا، حيث حطت طائرة المنتخب الليبي في مطار يبعد عن المدينة التي ستستضيف المباراة بينه وبين منتخب نيجيريا بأكثر من 200 كيلو متر، وتم تأخيرهم في المطار لأكثر من أربع ساعات، ثم تعريضهم لتفتيش شخصي دقيق وغير مبرر، ثم إرسال حافلات أقل ما يقال عنها إنها سيئة لتقلهم لمدينة أويو التي ستستضيف المباراة، ومن ثم نقلهم عبر طرق وعرة وغير ممهدة وغير مؤمنة في رحلة مليئة بالمشقات لمدة خمس ساعات، ولم تنته محنة المنتخب الليبي عند هذا الحد، بل تجاوزته لمعاملة سيئة وتفتيش غير مبرر أثناء مغادرة نيجيريا.

هذا السلوك المشين ليس جديدا على النيجيريين وكثير من الأفارقة، فقد استقبلت نيجيريا الكثير من ضيوفها بهذا الأسلوب، كما أن الأندية والمنتخبات الليبية كانت عرضة لمثل هذه المعاملة في كثير من المناسبات، آخرها ما تعرض له فريق أهلي طرابلس في كينيا الشهر الماضي، الجديد هذه المرة؛ هو قرار السلطات الليبية بالاستجابة للضغوطات الفيسبوكية الترندية، ورد المعاملة بالمثل لمنتخب نيجيريا، وإلى هنا يبدو الأمر عاديا وفي إطار حق الرد، ولكن ما هو ليس عادي، هو ما حدث لاحقا. 

يوم 13 أكتوبر وصلت بعثة منتخب نيجيريا بطائرة مستأجرة يقودها طيار تونسي إلى أجواء مطار بنينا، طلب من الطائرة تغيير وجهتها والهبوط في مطار الابرق لعدم إمكانية هبوطها في بنينا لأسباب خارجة عن إرادة إدارة المطار، ومن هنا بدأ لعب الأطفال، فبعد توجيه طائرة نيجيريا إلى مطار الابرق بأقل من ساعة؛ هبطت عدة طائرات في بنينا ومن بينها طائرة منتخب السودان وطائرة منتخب غانا اللذان سيلتقيان على ملعب شهداء بنينا في نفس يوم مباراة منتخب ليبيا ونيجيريا، قد يبدو الأمر عاديا، ولكن غير العادي هو أن تعلن صفحات رسمية ومن بينها صفحة المطار نزول طائرتي السودان وغانا بنوع من الشماتة وكأننا نعلن للعالم أننا نتعمد فعل ذلك ( خانب وفي يده شمعة). 

بعد هبوط الطائرة في مطار الابرق تم إخبار النيجيريين أن منظومة الجوازات عاطلة عن العمل مؤقتا، وبعد إصلاح المنظومة انتهى دوام موظفي الجوازات ليظل منتخب نيجيريا وإداريوه وقائد الطائرة عالقين بالمطار لأكثر من عشر ساعات، وبعد ختم جوازاتهم وإتمام إجراءات الدخول في فجر يوم 14 أكتوبر، وجدوا أن الحافلات التي ستقلهم غير موجودة، إجراء عادي ويدخل في رد الصاع صاعين، ولكن غير العادي أيضا أن تحاول البعثة النزول في فنادق مجاورة ولكن لا تسمح لهم الفنادق بذلك بينما يقبل الطيار التونسي، إلى هذا الحد قضا النيجيريون حوالي 14 ساعة أو أكثر في مطار لا يتمتع بأي مرافق مناسبة، وحتى بعد كل هذا لا زالت البعثة النيجيرية تريد الذهاب إلى بنغازي ولعب المباراة، ولكن للسلطات الليبية المدعومة بالصفحات الفيسبوكية رأي آخر، تأتي حافلة لتقل منتخب نيجيريا إلى بنغازي، وبعد ركوب الحافة ووضع متاعهم فيها، يأتيهم الأمر بالنزول منها لأنها ليست حافلتهم وعليهم الانتظار مرة أخرى حتى وصول الحافلة الصحيحة، هنا قرر النيجيريون ركوب طائرتهم والانسحاب من المباراة والعودة إلى بلادهم. 

لم تتسع الدنيا لفرحة أبطال الفيسبوك الذين يقودون السلطة الجاهلة، وبدأوا في الاحتفال مبكرا بالنقاط الثلاث، وبالهيبة المستردة، وبالسلطة الشجاعة التي أعادت الاعتبار لليبيا والليبيين، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ 

قرر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم إلغاء المباراة وفتح تحقيق في ملابساتها، وبعد التحقيق صدر قرار باعتبار ليبيا خاسرة نتيجة المباراة بنتيجة ثلاثة صفر وتغريمها خمسين ألف دولار.

التحقيق تابع ما حدث لبعثة نيجيريا في ليبيا منذ تحويل رحلتها من بنينا إلى الابرق، وحتى ركوب الطائرة وقرار الانسحاب، وبينهما تمت متابعة منشورات على صفحات فيسبوك رسمية مثل صفحة مطار بنينا وصفحة مطار الابرق، واستماع لشهادة كابتن الطائرة وغيره، فتبين لسلطة التحقيق أن السلطات الليبية لم تحاول حتى إخفاء تعمدها لهذه التصرفات، بل إنها وإرضاء لمراهقي الفيسبوك؛ كانت تجاهر بها وتسعى جاهدة لأن تنسب إليها وتنال الشكر الشعبي عليها. 

ولكن ماذا لو عاملت السلطات الليبية منتخب نيجيريا بمثل معاملة نيجيريا لمنتخب ليبيا، حول رحلتهم إلى مطار آخر، أخرهم في المطار أربع أو خمس ساعات، فتشهم تفتيشا دقيقا وأخرهم في التفتيش، خذهم في طريق برية طويلة وصعبة ومتعبة، ووفر لهم فنادق أقل مما يأملون، ثم اترك رد الاعتبار للاعبين في الملعب، ولمكنها لم تفعل ذلك.

واللافت أكثر للانتباه أن الاتحاد الليبي لكرة القدم لم يقدم شكوى للاتحاد الأفريقي بسبب المعاملة السيئة في نيجيريا في وقتها، واكتفى بتصريحات صحفية لوسائل إعلام ليبية، وبعد حادثة نيجيريا وبدلا من أن يتحمل مسؤولية أخطائه، قرر أن يركب موجة الترند لعله ينال نصيبا من الدعم الشعبي، وادعى أنه جهز ملفا محترما للدفاع عن حق ليبيا، ووعد الجماهير الفيسبوكية الغاضبة بنقاط المباراة.

وما يؤكد أكثر أن الأمر لم يزد حقيقة عن كونه لعب أطفال عندهم سلطة، أن منتخب نيجيريا وبعد أن لفت نجوه العالميون انتباه العالم لما يحدث لهم في ليبيا، وبعد تجرد صحفيين عالميين للمطالبة بحمايتهم من مصير مجهولة في (دولة غير آمنة)، كانوا يريدون لعب المباراة حتى بعد أن استمروا عالقين لأكثر من 17 ساعة في المطار، فمن المسؤول عن هذا العبث؟

إحدى النتائج السلبية لهذا السلوك هي النظرة السلبية التي ستلصق بالدولة؛ إضافة إلى تعريض الأندية والمنتخبات الليبية لأسوأ معاملة ممكنة في المستقبل، مع الأمل في أن ترد السلطات الليبية بمثل ما ردت على نيجيريا فيحصل خصومنا على نقاط مبارياتهم دون أن يلعبوا. 

والآن توسع أطفال الفيسبوك وصحفيو الترند والطهقة، وأصبحوا اليوم ينادون بطرد كل العمال والمهاجرين النيجيريين من ليبيا، وتحميل هؤلاء البسطاء الكادحين جريرة حادثة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والخوف الآن من أن تفعّل حكومات الغفلة قرارات مراهقي التواصل الاجتماعي وتبدأ في طرد البسطاء لتحصل على البيعة الفيسبوكية، كما بالغ أطفال فيسبوك في شتم الطيار التونسي، واعتباره خائنا، لأن شهادته لم تكن في صالحنا، وكأنه كان من المفترض عليه أن يشهد بالزور لإرضائهم!

إن هذا النمط من التفكير والتصرف، يعكس كيف أن ليبيا، بدلا من أن تكون دولة تتبع قواعد القانون والدبلوماسية، أصبحت دولة تحكمها الرغبات اللحظية لجماهير وسائل التواصل، حيث يتصرف المسؤولون وفقا لما يرضي هذه الفئات المتحمسة والمندفعة بلا عقلانية. 

وفي حالة المنتخب النيجيري، نجد أن "الكرامة الوطنية" التي تمسك بها المسؤولون لم تكن سوى صدى لرغبة مؤقتة لدى البعض في الانتقام، ما ألحق ضررا كبيرا بسمعة البلاد دوليا وفتح الباب أمام عقوبات رياضية تؤثر على مستقبل كرة القدم الليبية.

الاستسلام لضغوط فيسبوك وتحريضاته لن يبني دولة قوية، بل يجرّها نحو الفوضى والتصعيدات العشوائية، ما يعكس حاجة ملحة لوضع سياسات تضبط العلاقة بين صناع القرار والشارع الافتراضي، ويعيد للدولة هيبتها كجهة تصدر القرارات بناء على دراسة ورؤية واضحة، وليس على تغريدة أو منشور عابر.