شبهة فساد في بيت مكافحة الفساد!
كل الليبيين يعلمون علم اليقين أنهم يُنهبون ليلاً نهاراً من معظم السلطة الحاكمة في ليبيا طيلة النصف القرن الماضي. هذا ليس كلاماً مرسلاً، فقد تربعت ليبيا على قمة هرم التصنيف العالمي لأكثر الدول فساداً في العالم لسنوات، وكانت تُحقق أرقاماً كبيرة في هذا المجال. يبدو أن هناك أجيالاً نشأت في هذه البيئة، وتعاملت مع حالة الفساد كجزء من إدارة مؤسسات الدولة، ومن لا يسير على هذا النهج، لن يستمر في مكانه داخل هذه المؤسسات، لأنه ببساطة غير قابل للفساد.
خلفية تاريخية
قصتنا اليوم عن جهة تُعنى وفقاً لصريح القانون بمكافحة الفساد، وحتى اسمها يعبر عن ذلك (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد). وقد دخلت مثلها مثل باقي المؤسسات الرقابية في ليبيا لسباق المحاصصة والصراع، كونها جزءاً من المؤسسات السيادية.
تاريخياً، خلال حقبة دولة العقيد، كانت هيئة واحدة تضم الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة وهيئة مكافحة الفساد تحت مسمى (الرقابة الشعبية والتفتيش). بعد سنة 2011، قُسم هذا الجسم إلى ثلاث هيئات مستقلة، كل هيئة ينظمها قانون (ديوان المحاسبة، الرقابة الإدارية، وهيئة مكافحة الفساد). وقد حوت هيئة مكافحة الفساد كل التخصصات الرقابية الهامة، حيث مُنحت صلاحية المراقبة على كل الجهات العامة والخاصة في ليبيا، الأمر الذي جعلها مكانًا يجذب كل من يحاول إدارة عملية الفساد في ليبيا.
عدم استقرار إداري:
لم تحظَ هيئة مكافحة الفساد بحالة استقرار إداري منذ تأسيسها بشكلها المستقل، حيث كانت دائماً في حالة انقسام، بين رئيس فعلي، ورئيس على الورق، بل في بعض المراحل كان هناك هيئتان، لا يبعد مقراتهما الواحد عن الاخر إلا 9 كيلومترات. هذه الحالة جعلت أداء الهيئة في أضعف حالاته، ناهيك عن حالة التضخم الوظيفي التي مرت بها، وتمر بها إلى حد الآن، حيث باعتبارها إحدى المؤسسات التي يتمتع موظفوها برواتب عالية بحكم دورها الرقابي، فقد كانت وجهة لكل من يريد تحسين دخله. إضافة لذلك، كانت مادة للتفاوض مع كل حركة تغيير ممكنة في إدارتها العليا، حيث يتوعد كل من يريد أن يترأسها بالعديد من الوظائف لداعميه. وهذه حالة تعم على كل الهيئات السيادية ذات الطابع الرقابي.
صراع على رئاسة الهيئة:
في 17 مايو 2023، أصدر مجلس النواب الليبي قرارًا رقم (10) لسنة 2023 بتعيين أجديد معتوق أجديد رئيسًا للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. شُكِّلَت لجنة استلام وتسليم بين أجديد معتوق وعمر الدليمي الرئيس السابق للهيئة، لتسلم الأول مهامه على نحو رسمي. لكن هذا لم يحدث على أرض الواقع، حيث لم تتم عملية التسليم والاستلام. تمسك عمر الدليمي بمنصبه، وقدم طعناً في قرار مجلس النواب أمام القضاء الليبي. جاء رد القضاء برفض الطعن المقدم من السيد عمر الدليمي، وهذا واضح في كتاب إدارة القضايا بتاريخ 20 ديسمبر 2023، وألزم الحكم الصادر بتاريخ 18 ديسمبر 2023 الطاعن بالمصاريف. وبدأت مرحلة جديدة من الانقسام في جسم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
تناقضات قانونية وإدارية
من اللازم ذكره، أن السيد عمر الدليمي كان يرأس لجنة تسييرية للهيئة الوطنية للفساد. يتضح ذلك من خلال الكتاب الصادر عن مجلس النواب والمؤرخ في 20 نوفمبر 2023، الذي يخاطب فيه مجلس النواب كل الجهات السيادية والتنفيذية والقضائية بإلغاء قراره رقم (22) لسنة 2020 المتعلق بتشكيل لجنة تسييرية لإدارة مهام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. كما نوه الكتاب إلى عدم اعتبار السيد عمر الدليمي ممثلاً عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من تاريخ قرار مجلس النواب بتكليف الرئيس الجديد، مما جعل السيد عمر الدليمي غير ذي صفة، وهذا يتطابق مع صحيح القانون.
النائب العام استجاب لقرار مجلس النواب المذكور، حيث أرسل النائب العام تحت عنوان (عاجل وهام) كتاباً إلى مدير إدارة الرقابة على المصارف والنقد لمصرف ليبيا المركزي يطلب فيه التحفظ على أرصدة الحسابات المصرفية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالمصارف العاملة بمدينة طرابلس، وإيقاف تخويل توقيع المدعو عمر بوبكر عمر علي الدليمي على كافة الحسابات المصرفية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بكافة المصارف العاملة بالبلاد. استند كتاب النائب العام إلى البلاغ المقدم من النائب الثاني في مجلس النواب حول استمرار عمر الدليمي في مزاولة وظيفة الممثل القانوني للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بعد علمه بإعفائه منها.
تساؤلات حول تطبيق القانون
هنا نحن أمام قرار من سلطة تملك حق إصدار هذا القرار، وموظف لا يريد الالتزام بهذا القرار، وسلطة تحقيق معترفة بالقرار الصادر عن مجلس النواب. حيث يعتبر السيد عمر الدليمي مرتكباً لجريمة تُصنف جناية وفقاً للقانون. يتجلى ذلك بوضوح في كتاب السيد المستشار القانوني لرئيس مجلس النواب أشرف المبروك الدوس، الموجه إلى النائب العام بطلب فتح تحقيق في واقعة ارتكاب السيد عمر الدليمي جريمة جنائية وفقاً للقانون رقم (13) لسنة 2023 بشأن إضافة حكم للقانون رقم (2) لسنة 1979 بشأن الجرائم الاقتصادية. نصت المادة الأولى من القانون على أنه (يعاقب بالسجن كل موظف عام يصدر في حقه قرار من الجهة المختصة بنقله من الوظيفة التي يشغلها لأي سبب كان، أو إنهاء ندبه أو إقالته، ويرفض تنفيذ القرار بتسليم ما بعهدته بعد إخطاره أو علمه به بأي شكل كان. وتكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن عشر سنوات إذا كان الموظف يشغل إحدى الوظائف العليا أو الوزارات أو مجالس إدارة الهيئات أو المؤسسات والشركات العامة، أو تلك التي تساهم بها الدولة أو الأجهزة الأمنية وما في حكمها من الأجهزة النظامية، ولا يعتد بأي حصانة يتمتع بها الموظف عن التحقيق معه في هذه الجريمة).
التساؤلات الكبرى:
باعتبار أن النيابة، متمثلة في مكتب النائب العام، قد علمت بوقوع هذه الجريمة، والتي يحتم عليها قانون الإجراءات الجنائية أن تحرك الدعوى الجنائية بمجرد علمها بأن هناك جريمة تُصنف كجناية قد ارتكبت، يتساءل الكثيرون:
- لماذا إلى حد الآن لم يُوقَف السيد الدليمي على ذمة التحقيق واتهامه بارتكاب جريمة جنائية بحكم القانون؟
لم يتوقف بحثنا هنا، حيث استوقفنا صكاً صادر من مصرف الجمهورية فرع المقريف لصالح مصرف الجمهورية / مركز الخدمات والمرتبات، بقيمة ستمائة وتسعة وخمسين ألفاً وتسعمائة وسبعة عشر دينارًا و176 درهماً، مذيل تحت اسم (هيئة مكافحة الفساد) بتاريخ 31 ديسمبر 2023. هذا مستغرب بحكم أن مكتب النائب العام كان قد أرسل كتابًا بتاريخ 14 ديسمبر 2023 إلى مدير عام مصرف الجمهورية طالبًا منه بشكل واضح تجميد حسابات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتعميم على كل فروع المصرف بوقف أي تعاملات مالية خاصة بهذه الحسابات، بمعنى أنه قبل صرف الصك المذكور أعلاه بـ 14 يومًا كان هناك كتاب من النائب العام، وكان من المفترض أن تدخل تعليماته فورًا حيز التنفيذ. بالتالي
- لماذا وافق وأصدر مصرف الجمهورية فرع المقريف هذا الصك بهذه القيمة؟ ولماذا لم يلتزم بتعليمات النائب العام الصادرة له في هذا السياق؟
تدخل الحكومة التنفيذية:
لم يقف الأمر هنا فقط، حيث وجدنا أثناء تحقيقنا كتابًا موجهًا من قبل عقيلة صالح رئيس مجلس النواب إلى كل الجهات السيادية والقضائية في ليبيا بعدم التعامل مع كتاب حكومة الوحدة الوطنية تحت رقم (479) المؤرخ في 26 نوفمبر 2023 باعتبار السيد عمر الدليمي هو الممثل القانوني للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. اعتبر الكتاب أن الإجراء الذي قامت به الحكومة هو والعدم سواء. عندما بحثنا حول اختصاصات الحكومة، لم نجد أي إشارة إلى كون السلطة التنفيذية في ليبيا تعنى بتكليف أو تزكية أو تعيين أو الإشراف أو اتخاذ أي إجراء متعلق بالمؤسسات السيادية ذات الطابع الرقابي. هذا الأمر هو حصر من اختصاص السلطة التشريعية في البلاد. بالتالي
- مع علمها بعدم اختصاصها، لماذا أصدرت حكومة الوحدة الوطنية هذا الكتاب؟
الخاتمة :
ما سعينا لإيضاحه في هذا التحقيق هو حالة قد تمثل شُبهة فساد في بيت هيئة من المفترض أنها تحارب الفساد في المجتمع. حماية هذه الهيئة من أي شبهة فساد هي مسؤولية الجميع، كوننا نؤمن أن هذه المؤسسات تمثلنا نحن أفراد المجتمع. تم إحاطة هذه المؤسسات بجملة من القوانين والإجراءات لرفعها عن أي شبهة، وحمايتها من أي ابتزاز، لما تمثله من أهمية كونها ضمير المجتمع في مراقبتها على أداء السلطة التنفيذية. بالتالي، هذا الجهد ليس موجهاً لشخص أو ضد شخص، بل هو موجه لضميرنا جميعًا لكي يعمل بالشكل الصحيح، كونه أولاً ضمير، وكونه ثانياً يمثلنا.