اليوم الثاني لغياب حفتر ( حكاية الرشيد تتكرر! )
في نهاية القرن الثاني الهجري، وقف هارون الرشيد –وهو أحد أقوى خلفاء الدولة العباسية– أمام السؤال الذي حيّر كل من جلس على كرسي مُثقل بالتاريخ والدم والأطماع: كيف يضمن استمرار حكمه بعد موته؟
فجمع الفقهاء والقضاة والوجهاء، ورتّب العهود، وكتب المواثيق، وقسّم الملك بين ابنيه الأمين والمأمون، ظانًّا أن الورق يمكنه أن يُسكت السيوف، وأن الأختام قد تُقنع الطامحين بأن يقفوا في طابور القدر الصامت.
ومع ذلك، كان الصدام حتميًّا؛ فالسلطة حين تُجزّأ لا تهدأ، وحين تُقسّم لا تستقر، حتى لو اجتمع لها عقل الرشيد وقوته ونفوذه.
واليوم، بعد أكثر من ألف عام، يبدو أن التاريخ يمسح الغبار عن نفسه ليعيد مشهده القديم في ليبيا، ولكن على مسرح مختلف وبمُمثلين مختلفين، وفي سياق وأدوات حديثة في ظاهرها لكن قديمة في تسلسلها الزمني، هنا على هذه الأرض يعشق الناس تكرار التجارب بحدافيرها، وعندهم دائمًا يقين لا يعلم أحد من أين يأتون به أنهم سيصلون لنتائج جديدة، لم يستطع من سبقهم الوصول إليها، وأن تكرارهم للتجربة فيه نفسٌ جديد ينتهي عادة بخروج أنفاسهم!!
لا تحتاج لفقيه اليوم لتعلم أن مشروع الرجمة خُلِق ليورّث، كل المؤشرات كانت تقول ذلك، حيث كل الناس اليوم التي تؤيد هذا المشروع تكذب على نفسها ليلًا نهارًا أن هذا المشروع لا يشبه كل المشاريع السابقة للحكم في منطقتنا، حيث بإنكارهم هذا هم يحاولون أن يُذهبوا من سرائرهم القلق الذي يكبر كل يوم داخلهم من تكرار مشاهد سقوط المشاريع التي تشبه مشروع الرجمة.
لكن دعنا من ذلك ولنفكر سويًا في مآل حالة التوريث؟
هناك إجماع بين كل مريدي قبة الرجمة ومن سكن تحت حكمهم أن عملية نقل القيادة في مشروع الرجمة تمت بهدوء وسلام، وأن بيت آل حفتر رضوا بالقسمة التي حدثت، وأن الحلفاء الإقليميين والدوليين لمشروع الرجمة قبلوا هذا المشهد وأقروه، وأن غياب حفتر القائد اليوم بأي صورة كانت لن ينتج أي خلخلة في استمرار المشروع، وأن الأبناء أو الورثة الشرعيين للمشير حفتر متفقون على هذه القسمة في مشهد يشبه ما قام به الرشيد مع أبنائه، مع قياس الفارق وظلمنا للرشيد في هذا التشبيه!
حيث عندما مات الرشيد بدأت المعادلة الثابتة في السلطة المتغلبة في هذه الأرض بعملها، وأقصد هنا الحاشية والبطانة قديمًا و"القوادة والطبّالة وشيّالين الشناطي حاليًا"، في الوقت الذي كان فيه كبار القادة والوزراء المحيطون بالأمين، خصوصًا (الفضل بن الربيع)، بدأوا يدفعونه باتجاه نقض العهد.
كانوا يهمسون له بأن بقاء المأمون كولي عهد وبسلطات واسعة في خراسان، يهدد وجوده، وأنه يجب "إعادة ترتيب الوراثة" لصالح ابنه موسى.
لا يختلف المشهد كثيرًا في الرجمة، حيث كل من اللواء خالد حفتر رئيس الأركان واللواء صدام حفتر الوريث للمشير والأصغر في أبنائه، كلٌّ منهم يملك بطانة تقدمه كرمز للوحدة والقيادة، ويتضح ذلك جليًا في كل تحركاتهم ومشاهد إخراجهم إعلاميًا، يبين هذا المؤشر الواضح أن جمر المنافسة على أحقية وراثة المشير لم تُحسم في الصدور، إنما حُسمت في الإعلام والشكل الخارجي، فلا يوجد أي ضمانة تقول إن الأمر سيستمر هكذا بعد غياب المشير عن هذه الحياة.
ما يعزز فرضية الصراع أيضًا هو غياب أي مشهد قيادي لشخصيات عسكرية برقاوية في مشروع الرجمة بعد أن قام المشير وأبناؤه بإفراغ الصفوف الأولى منهم وتعبئة الجنود بدفعات جديدة ولاؤها فقط لأبنائه ومرجعيتهم المناطقية مختلفة عن برقة وفزان، يتضح هذا جليًا في التغييرات التي قام بها مؤخرًا صدام حفتر بحله لكتيبة (سبل السلام) المحسوبة على قبيلة الزوي في مدينة الكفرة، وتغييره للقيادي (حسن الزادمة) ابن قبائل أولاد سليمان المتنفذة عسكريًا في مدينة سبها عاصمة الجنوب وما جاورها من منصبه كقائد للواء (128)، ناهيك عن إنهائه لنفوذ التبّو، المكون الأساسي البشري المسيطر على خط الحدود مع تشاد والنيجر والسودان، وعزل كل قادتهم إما بالتصفية أو السجن.
هذا كله واللواء خالد حفتر يقدم نفسه اليوم الابن العاقل الهادئ قليل الأخطاء والتدخلات العنيفة في المشهد، إلى حد الآن لم تثبت في حقه انتهاكات مباشرة لمعارضي أبيه، حيث كل هذه السلوكيات مرتبطة بصدام حفتر، بينما يكتفي خالد بدعم المناشط الإعلانية والرياضية ناهيك عن قيادته للواء (106) والذي يعتبر إحدى ركائز قوات الرجمة ويقوم بتطويره بشكل مستمر.
لم يأخذ حفتر المواثيق والمعاهدات على أبنائه بتثبيت الاتفاق وهذا الترتيب كما عمل الرشيد، بل اكتفى بورقة جاءت من مجلس النواب بتسمية ابنه نائبًا له فقط، والنائب في ليبيا قد يبقى نائبًا إلى الأبد...
وكما اعتقد الرشيد أن الترتيب المسبق يمنع الاقتتال، يظن البعض أن هندسة الخلافة داخل التشكيلات المسلحة يمكن أن تنتج استقرارًا، لكن من يعرف منطق الحكم يدرك أن السلطة في منطقتنا وقواعد هذه التجربة تقول إن السلطة لا تُسلَّم طوعًا، ولا تستقر بالوراثة، وأن التاريخ –في كل مرة– يبتسم ساخرًا ممن يظنون عكس ذلك.
نعلم جيدًا اليوم ماذا حل بترتيبات الرشيد لتوريث عرشه، وكل من له بصيرة يعلم اليوم مآلات ترتيب حفتر لمن يرث قبته، لكن فقط أولئك المنتفعون هم من يقدمون للناس سردية ثانية، سردية قائمة على الوهم.
وهم سيتبدد أول ما يظهر الصباح، ولأن الصباح يأتي دائمًا، فانتظروا إني معكم من المنتظرين...