من أبوسليم إلى معيتيقة: قصة الخنجر الذي لم يُغمد بعد!
في بلاط عبد الرحمن الداخل، حيث تُقتل الفكرة إن تأخرت، كانت الفروسية تُختبر أمام دهاء السياسة، وتُوزَن العهود بميزان الدم ، حين جاءه رجل من القيسية (قبيلة من قبائل العرب استقرت في الأندلس)، فارسٌ من نسل السيوف، قائدٌ لا يُستهان به، له قبيلة وسيف وكلمة. كان خصمًا لا يمكن تركه يستظل بشجرة السلام، فجذوره من طينة الغدر.
قال له بعض جلسائه: “أمِّنه، فالرجل من كرام العرب، لا يطعن من وثق.” فأرسل إليه من خاصته من يُبلغه الأمان، وقال له: “قل له: له عليّ العهد والموثِق، ولي على نفسي الشهادة.”
جاء الفارس القيسي، ولم يدخل منفردًا، بل دخل ومعه رهطه، وعليهم هيبة الحرب وسكون الثقة. جلس في مجلس الداخل، فكان اللقاء جافًّا، كأن كرامتين تتصافحان بالحذر لا بالمودّة. أحسّ الداخل أن العهد في عيني الرجل لا يشبه العهد الذي خرج من فمه، وأن تحته بركانًا من الطموح لا ينام. فهَمَس لمستشاريه بعد اللقاء: “الرجل خطر، ما رأيكم؟”
قال أحدهم وقد احمرّ وجهه: “نحن من أمّنَه يا مولاي، أهذا جزاء الفارس حين يُسلم سيفه؟”
فردّ الداخل ببرود: “ومن قال إن للسياسة فارسًا؟”
دخل القيسي إلى المجلس مرة أخرى، ليجد الداخل قد لبس الصمت، واختار أن يقطع الشك بالحدّ. نادى جاريته، فأتته بخنجر دون صوت، دسّه تحت ردائه، وجلس قرب الرجل، ثم، بكل هدوء، طعنه في قلبه. ووقف قائلًا: “هذا هو العهد… إذا كان بقاء دولتي ثمنه كَسْرَة فروسية.” وفي الخارج، حين سمع جنوده بالخبر، لم يشهروا سيفًا، بل تشظّى ولاؤهم كزجاجٍ خائف، وعادوا أدراجهم.
لن يكون محمود حمزة وعبد السلام الزوبي اليوم في مكان عبد الرحمن الداخل، فذلك تشبيهٌ يَطعن في الداخل. لكن حالة الفارس القيسي تُشبه، إلى حد كبير، ما حدث مع عبد الغني الككلي؛ فلو بقي الأخير في أبوسليم، لما تمكّنوا منه بهذه السهولة. لكن دعك منه الآن، ولنحاول أن نفهم: ما الذي يحدث؟ وما الخطوة التالية؟
كل المؤشرات تُشير إلى أن هناك قرارًا من أطراف دولية لإحداث نوع من الاستقرار في ليبيا، ولو نسبيًا. سمعنا ذلك من خلال أمر البارجة الأمريكية التي رست في طرابلس وبنغازي، ورأيناه في تغريدة ترامب التي ربط فيها ليبيا وسوريا بمفهوم “الاستقرار”. تبع ذلك طلب حضور محمود حمزة والزوبي إلى واشنطن، وصدام حفتر من الجهة الأخرى.
نجح محمود حمزة والزوبي – بشكل نسبي – في تقديم أنفسهم كقوة عسكرية شبه نظامية، لا تملك سجونًا، ولا تحتك بالمواطنين بشكل مباشر، وأفرادها يخضعون للأوامر. مما جعلهم خيارًا أفضل من غيرهم لتنفيذ مشروع “استقرار نسبي” في ليبيا. وبالتالي كان الاعتماد عليهم في تنفيذ “ليلة السكاكين الطويلة”، خاصة بعد أن قررت قوات مصراتة دخول العاصمة لإسقاط الككلي، نظرًا لتغوّله في أجهزة الدولة، وتهديده لمصالح مصراتة كمدينة وقوة عسكرية مؤثرة في طرابلس.
أصبح إنهاء الككلي أمرًا لا مفرّ منه، فقد بات لا يرى نِدًّا له في العاصمة، معتقدًا أنه قويّ بمن حوله، وبتحصّنه في أبوسليم تحديدًا.
هناك طرف آخر أيضًا يرى أن غنيوة بات عقبة في طريقه، وهو تيار “الدبيبات”. فمنذ اليوم الأول لحكومة “عودة الحياة”، تعامل غنيوة مع الدبيبة كشريك في الحكم، لا كتابع. وهي حقيقة، فقد كان غنيوة رأس الحربة في إجهاض أخطر تهديد واجه حكومة الدبيبة، حين أفشل مخطط إدخال فتحي باشاغا إلى طرابلس عبر النواصي وبقايا “ثوار طرابلس”. لذا، أصبح التخلص من عبء غنيوة ضرورة، خاصة مع تضخم مطالبه، وتنامي نفوذه لدرجة أصبح معها أقوى من الدبيبة نفسه.
كما أشرنا في مقال نُشر بتاريخ (25 ديسمبر 2024) بعنوان “هناك ظِلّ لواء جديد يظهر في طرابلس! هل سمعتم عنه؟”، فإن هناك مؤشرات واضحة على أن المنطقة الغربية يُعاد تشكيلها لتكون تحت سيطرة قوة واحدة، كما حدث في بنغازي. أو على الأقل طرابلس، كخطوة تأسيسية لحالة “استقرار نسبي” وفق سردية صانعي المشهد.
لكن هذا الأمر لن يمرّ دون “الخطوة الثانية”، وهي التعامل مع قوة الردع الخاصة. فرغم بُعدها النسبي عن مؤسسات الدولة، وعدم انخراطها الصريح في العملية السياسية، يعلم محمود حمزة جيدًا أنه لن يُحكم قبضته على طرابلس دون إزاحة هذه القوة. خصوصًا بعد تجربة مريرة معها العام الماضي، حين اعتُقل في مطار معيتيقة، ونشبت حرب أودت بحياة حوالي خمسين فردًا من الطرفين، قبل أن يُفرج عنه.
ويرى كثيرون أن استخدام القوة ضد قوة الردع لن يكون خيارًا منطقيًا؛ فهي متمركزة في سوق الجمعة، منطقة لها تاريخ مسلّح وحاضنة شعبية قوية. كما أن مشهد إسقاط غنيوة وانتشار السلب والنهب في أبوسليم كافٍ لأن يدفع بقية المناطق للدفاع عن نفسها خشية المصير ذاته. ناهيك عن سجن معيتيقة، الذي يحتجز داخله عناصر إرهابية خطيرة، ما يجعل الخيار العسكري محفوفًا بالمخاطر.
ورغم انتهاء غنيوة وقوته، إلا أن استمرار تدفق الآليات العسكرية من مصراتة، وقرارات الدبيبة بحلّ جهاز عمليات الشرطة القضائية برئاسة أسامة نجيم – أحد مؤسسي الردع – يُظهر بوضوح أن هناك نية لفرض واقع أمني جديد في طرابلس.
واستنادًا إلى أسلوب الصدمة الذي حدث بقتل غنيوة بشكل مفاجئ، وانهيار قوته السريع، والإيحاء من قبل محمود حمزة والزوبي بأن هذه الخطوات جاءت بعد ترتيب مع “العم سام”، خاصة وأن العملية العسكرية جاءت بعد عودتهم بسبعة أيام، الأمر الذي جعلهم يعوّلون على هذه الصدمة، وتقدّموا باتجاه منطقة سوق الجمعة، اعتقادًا منهم أن الجميع تحت وقع الصدمة، خاصة بعد انسحاب كل القوات التابعة للردع من المراكز والمقرات التي تتبعها خارج نطاق سوق الجمعة. وهذا ما جعل قوات محمود حمزة – بالتحديد – تعتقد أن الصدمة التي تعمّدوا نشرها قد أثّرت في قوات الردع، فتقدّموا بشكل كبير، ليفاجَؤوا بردة فعل قوية جدًا، أدت إلى تراجعهم إلى معسكر التكبالي، واسترجاع الردع لكل مقراتها وتمركزاتها.
في الوقت ذاته، تحرّكت قوة عسكرية كبيرة من الزاوية وورشفانة، ودخلت إلى طرابلس من جبهة الجنوب لتخفيف الضغط على قوة الردع، وقد نجحت في ذلك. وصل الطرفان إلى وقف إطلاق نار مؤقت، تحت تقدّم واضح لأسهم الردع عسكريًا وسياسيًا وشعبيًا.
يرى العديد أن الدبيبة لن يستطيع أن يلملم الأمر هذه المرة، حيث خرجت المظاهرات في جل مناطق طرابلس والزاوية ومصراتة، ولن يقبل محمود حمزة هذه المرة إلا بتثبيت وضعه في المناطق التي سيطر عليها في أبوسليم والهضبة، والتي كانت تتبع غنيوة، بينما، في المقابل، لن تقبل الردع بذلك.
ما نؤمن به هو أن من كان يتجوّل مع غنيوة بالأمس، ويغضّ الطرف عن جرائمه، لم يقم بما قام به اليوم حبًّا في الوطن ومصالحه. فمصالح الشعب لا تتجزأ، وضحايا الظلم كُثُر، بينهم من كانت صيحاتهم تُسمَع وهم يُعذّبون في أقبية السجون، بينما كان جلادوهم يتناولون الغداء مع من قرر قتلهم لاحقًا عند حوض السباحة في (الصفر).
التاريخ لا يعيد نفسه، بل البشر هم من لا يتّعظ، فيُكرّرون ذات الخطايا. فالطغيان المرافق للسلطة دائمًا ما يُعمي العيون، ونادرًا ما نرى من امتلك السلطة ونجا من طغيانها.
لذا، سُئل عبد الرحمن الداخل يومًا: “أغدرتَ يا أمير؟”
فقال: “الغدر خيانة إذا لم يكن لدولتي اسم، أما إذا كان لها عرش، فكل خنجرٍ يُحمَل هو حُكم.”
فاحذر، أيها المواطن، من “الداخل” ولا تكن مثل الفارس القيسي